الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات. وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160]: {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67]. وأُجيب أيضًا بأنه جُزِم على التوهُّم، يعني لَمَّا كانت: {مَنْ} الموصولةُ تُشْبه: {مَنْ} الشرطية. وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال: فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي، ولا يقال للتوهُّم. وأجيب أيضًا بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ. وأُجيب أيضًا بأنه إنما جُزم حملًا ل: {مَنْ} الموصولة على: {مَنْ} الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في خبرها.قلت: وقد يُقال على هذا: يجوز أن تكونَ: {مَنْ} شرطيةً، وإنما ثَبَتَت الياءُ، ولم تَجْزِمْ: {مَنْ} لشببها ب: {مَنْ} الموصولة، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله: {ويَصْبر} فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه. وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12].وقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها: أمَّا العمومُ في: {المحسنين}، وإمَّا الضميرُ المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل: مُحْسِنيهم، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير.{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}قوله تعالى: {آثَرَكَ}: أي: تَفَضَّل عليك، والإِيثار: التفضيلُ بجميع أنواع العطايا، آثَره يُؤْثِره إيثارًا، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم، وفي الحديث: «ستكون بعدي أثَرة»، أي: يَسْتأثر بعضكُم على بعض، ويقال: استأثر بكذا، أي: اختصَّ به، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه، قال الشاعر:
{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}قوله تعالى: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} {عليكم} يجوز أن يكون خبرًا ل: {لا}، و: {اليومَ}: يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر، أي: لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ: {اليوم} خبرَ: {لا} و: {عليكم} متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ. ويجوز أن يكون: {عليكم} صفةً لاسم: {لا}، و: {اليوم} خبرُها أيضًا، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب: {تَثْريب} لأنه يصير مُطَولًا شبيهًا بالمضاف، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو: لا خيرًا مِنْ زيد عندك، ويزيدُ عليه الظرفُ: بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو: {عليكم} لأنه: إمَّا خبر وإمَّا صفة.وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقًا ب: {تَثْريب} فقال: فإنْ قلت: بِمَ يتعلَّق اليوم؟ قلت: بالتثريب أو بالمقدَّر في: {عليكم} من معنى الاستقرار، أو ب: {يَغْفر}. قلت: فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب: {تَثْريب} فيه ما تقدم. وقد أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون، وجعل الفارسي من ذلك قوله: قال: فأيَّةً منصوب بكُفْران، أي: لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي. ولا يجوزُ أن تُنْصب: أيَّةً بأَوَيْت مضمرًا؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي: أرى بجملتين: أي ب: لا وما في حَيِّزها، وب: أَوَيْت المقدرة. ومعنى أَوَيْت رَقَقْت. وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث: «لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل» برفع «يومٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا.وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه، وابتدأ ب: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ}، وأمَّا تعليقُه ب: {يَغْفر} فواضِحٌ أيضًا ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على: {عليكم} وابتدأ: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ}، وجوَّزوا أن يكونَ: {عليكم} بيانًا كلك في نحو سقيًا لك، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوف، ويجوز أن يكونَ خبرُ لا محذوفًا، وعليكم واليوم كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه تثريب، والتقدير: لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ، كما قَدَّروا في: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ. قال الشيخ: لو قيل به لكان قويًا.وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر، وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازًا كقولهم: شعرٌ شاعر بخلاف عاصم يَعْصِم فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز.والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به، وفي الحديث: «إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ»، أي: لا يُعَيِّر، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد، فإذا قلت: ثَرّبْتُ فلانًا فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلًا في تمزيق الأعراض.وقال الراغب: ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم الثَّرْب وهو شَحْمة رقيقة، وقولُه تعالى: {يا أهل يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة. اهـ.
ويقال إنَّ التفاصُلَ والتفارُقَ بين يوسف وإخوته سَبَقا التواصلَ بينه وبين يعقوب عليهما السلام؛ فالإخوةُ خَبَره عرفوه قبلَ أنْ عَرَفَه أبوه ليعلَم أن الحديث بلا شكٍ.ويقال لم يتقدموا على أبيهم في استحقاق الخبر عن يوسف ومعرفته، بل إنهم- وإن عرفوه- فلم يلاحظوه بعين المحبة والخلة، وإنما كان غرضُهم حديثَ الميرة والطعام فقط، فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى}: يعني إني لأَخٌ لِمِثْلِ هذا لمثلكم؛ ولذا قال: {أَنَّا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى}، ولم يقل وأنتم إخوتي، كأنَّه أشار إلى طرفٍ من العتاب، يعني ليس ما عاملتموني به فِعْلَ الإخوة.ويقال هَوَّنَ عليهم حالَ بَدَاهَةِ الخجلة حيث قال: {أَنَا يُوسُفُ} بقوله: {وَهَذَا أَخِى} وكأنه شَغَلَهم بقوله: {وَهَذَا أَخِى} كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] إنه سبحانه شَغَلَ موسى عليه السلام باستماع: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] بمطالعة العصا في عين ما كوشِف به من قوله: {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ} [طه: 14].ثم اعترف بوجدان الجزاء على الصبر في مقاساة الجهد والعناء فقال: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.وسمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق- رحمه الله- يقول لما قال يوسف: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} أحَالَ في استحقاق الأجر على ما عمل من الصبر... فأنطقهم الله حتى أجابوه بلسان التوحيد فقالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} يعني ليس بِصْبرِك يا يوسفُ ولا بتقواك، وإنما هو بإيثار اللَّهِ إياك علينا؛ فبه تقدمت علينا بحمدك وتقواك. فقال يوسف- على جهة الانقياد للحقِّ-: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ}، فأسقط عنهم اللوم، لأنه لمَّا لم يَرَ تقواه من نفسه حيث نبَّهوه عليه نَطَقَ عن التوحيد، وأخبر عن شهود التقدير.{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)}اعترفوا بالفضل ليوسف عليه السلام حيث قالوا: لقد آثرك الله علينا، وأكَّدوا إقرارَهم بالقَسَم بقوله: {تَاللَّهِ} وذلك بعد ما جحدوا فَضْلَه بقولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد.ويقال لمَّا اعترفوا بفضله وأقرُّوا بما اتصفوا به من جُرْمِهم بقولهم: {وإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وجدوا التجاوزَ عنهم.{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)}أسرع يوسفُ في التجاوز عنهم، وَوَعَد يعقوبُ لهم بالاستغفار بقوله: {سَوْفَ أَستَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} لأنه كان أشدَّ حباَ لهم فعاتبهم، وأما يوسف فلم يرهم أهلًا للعتاب فتجاوز عنهم على الوهلة، وفي معناه أنشدوا: ويقال أصابهم- في الحال- مِنَ الخجلة مقام كلِّ عقوبة، ولهذا قيل:كفى للمقصِّر الحياءُ يوم اللقاء. اهـ.
|